معجزة المانغروف على اطراف الصحراء السعودية

بقلم: الدكتور نزار حداد
الدكتور نزار حداد من الكفاءات العربية في مجالي الزراعة والابتكار الزراعي، وكاتب متخصص في قضايا البيئة والتنمية الزراعية المستدامة، إذ يجمع بين خلفية أكاديمية رصينة تشمل دكتوراه في الهندسة الزراعية، وماجستير في النظم الزراعية وأخر في الإدارة والدراسات الاستراتيجية، إضافة إلى دبلوم عالي في إدارة الموارد الوطنية.
الكلمات المفتاحية: المانغروف، تغير المُناخ، التنمية المستدامة، النظم البيئية، الكربون، النظم البيئية الساحلية، البيئة، البحر الأحمر.
الرياض – غابات المانغروف من أعظم الكنوز البيئية في بعض المناطق الساحلية؛ تحمي الإنسانَ والبيئةَ بحفاظها على التنوع البيولوجي، وتشكّل ملاذاً طبيعياً لأكثر من (4.1) مليون من صغار الصيادين في مصائد الأسماك البحرية حول العالم؛ وتحمي السواحلَ من العواصف والفيضانات، وتُسهم عالمياً في تفادي خسائرَ عقاريةٍ بنحو (65) مليار دولار، وتحمي نحو (15) مليون شخص في كافة أصقاع المعمورة. وغابات المانغروف من أكفأ النظم البيئية في احتجاز ثاني أكسيد الكربون؛ إذ تخزِّن نحو (22.86) مليار طن، معظمها كـ “كربون” في التربة، ما يجعلها حليفاً طبيعياً في مواجهة تغير المُناخ. إلا أنها تواجه تهديداتٍ متسارعةً، أبرزُها تحويلُ الأراضي للزراعة، والاستخراج غير المستدام للموارد، والتلوث، وبالتالي فقدان نحو (30%) منها عالمياً خلال الأربعين عاماً الماضية.(6)
تسلّط منظمةُ الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) الضوءَ على الوضع الحرج للغابات، مُشيرةً لخضوع (42%) منها حالياً للحماية. وفي إطار الالتزام العالمي بالتنمية المستدامة، تبنّت (71) دولةً حلولاً طبيعيةً قائمةً على النظُم البحرية والساحلية ضمن اتفاق باريس للمُناخ، تماشياً مع الهدف “14” من أهداف التنمية المستدامة، الهادف للحفاظ على النظُم البحرية وتعزيز قدرة المجتمعات الساحلية على مواجهة تغير المُناخ. ومنذ عام 1996، يقود التحالفُ العالميُّ للمانغروف جهوداً لوقف فقدان هذه الغابات واستعادة المناطق المتضررة، وتتواصل المبادراتُ الدوليةُ مثل “عقد الأمم المتحدة لاستعادة النظم البيئية” لتعزيز جهود الحماية، إدراكاً لدور المانغروف في التكيّف المُناخي وصحة البيئة العالمية.(18)
وفي تحوُّلٍ بيئيٍّ لافتٍ، تعيد المملكةُ العربيةُ السعوديةُ رسم ملامحِ قصّتِها البيئية، متجاوزةً صورتَها النمطية لعقود كأرضٍ صحراويةٍ غنيةٍ بالنفط، لتكشف اليومَ عن وجهٍ حيويٍ أخضرَ على سواحلها، تحرسه غاباتُ المانغروف طبيعياً لمواجهة تغير المُناخ وتآكل السواحل وفقدان التنوع الأحيائي.
تخزّن أشجارُ المانغروف (4) أضعاف كمية الكربون مقارنةً بالغابات الأرضية، بفضل تربتها العميقة الغنيّةِ بالمواد العضوية. وعلى امتداد سواحل البحر الأحمر والخليج العربي، تُشكّل هذه الغاباتُ دعامةً حيويةً لاستقرار النظُم البيئية الساحلية، وتوفِّر موائلَ غنيةً للحياة البحرية، وتُعدُّ من أكفأ مصائد الكربون الأزرق عالمياً؛ بفضل الرواسب العضوية، وعمليات إذابة الكربونات الفريدة المُعزِّزة لامتصاص ثاني أكسيد الكربون بما يتجاوز الآليات التقليدية للدفن، لتكون حليفاً استراتيجياً في المعركة العالمية ضد تغير المُناخ.(1)(2)(3)(4)
مؤخراً، كشف فريقُ علماء، بالتعاون مع التحالف العالمي للمانغروف، أن هذه الغابات تختزن نحو (6.23) جيجا طن من الكربون في تربتها وكتلتِها الحيوية، لتكون خطَّ الدفاع الأول في مواجهة تغيّر المُناخ. لكن قيمتَها البيئية لا تتوقف هنا؛ فبحسب الاتحاد الدولي لصون الطبيعة، تُعد هذه الغابات حاضناتٍ طبيعيةً وملاذاً آمناً لصغار الأسماك والقشريات من المفترِسات، وتسهم في تعزيز إنتاجية المصائد الساحلية. كما تُعد نقاطاً ساخنةً للتنوع الأحيائي، ومواقعَ مثاليةً لمراقبة الطيور خاصةً الأنواع المهاجرة التي تتخذها كمحطاتٍ للراحة والتغذية. وتعتبر غاباتُ المانغروف وجهاتٍ ترفيهيةً فريدةً تجمع الغطاء النباتي الكثيف ونسمات البحر العليلة، كمنتزه أرامكو البيئي للمانغروف في رأس تنورة، نموذجاً للتفاعل المجتمعيّ مع الطبيعة، والتوعية والتعليم البيئي. وفي المملكة، يضطلع المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية بدور محوري لحماية الكائنات في بيئة المانغروف، من الطيور الساحلية للافقاريات البحرية، ببرامجَ علميةٍ دقيقةٍ وفق أسسٍ وطنيةٍ راسخةٍ في مجال الحفظ البيئي.(1)(5)(12)(13)(16)(17)
وتواجه هذه النظمُ البيئيةٌ تهديداتٍ متزايدةً؛ ففقد العالمُ نحو (284.000) هكتار من غابات المانغروف بين عامي 2000 و2020، نتيجةً للتوسع العمراني الساحلي والتلوث والرعي الجائر. وفي منطقة البحر الأحمر وحدَها، تدهور أكثرُ من (70%) من الغابات بفعل الرعي غير المنضبط والبناء وتصريف مياه الصرف الصحي، مما يُعرّض الطبيعةَ والمجتمعاتِ الساحلية المجاورة لمخاطرَ بيئيةٍ جسيمةٍ.(6)(7)
ولمواجهة التحديات البيئية المتسارعة، أطلقت المملكةُ مبادرةً لإحياء غابات المانغروف، يقودُها المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، بنهجٍ علميٍّ دقيقٍ ورؤيةٍ بيئيةٍ بعيدة المدى. فمنذ عام 2020، غُرسَت أكثرُ من (37) مليون شتلة مانغروف، ضمن خطة طموحة للوصولَ لـ (100) مليون شتلة بحلول عام 2030. وتُركز هذه الجهود على أنواع المانغروف المحلية المُتكيّفة بفرادةٍ مع أنماط المدّ والجزْر في البيئة الساحلية للمملكة، مع نسب بقاءٍ تجاوزت (90%) في مواقع الاستزراع في تبوك وجازان وأملج والمنطقة الشرقية.(8)(9)
ولا يقتصر أثرُ هذه النهضة الخضراء بيئياً، بل بات لها قيمةٌ اقتصاديةٌ. ففي عام 2023، نجح مُربّو النحل السعوديون بحصاد (6) أطنان من عسل المانغروف النادر، بإدارة أكثر من (47.000) خلية نحل. وحظي هذا العسل العضوي باعترافٍ دوليٍّ ، بالفوز بالميدالية الذهبية في جوائز باريس الدولية للعسل.(9)(11)
وتعزيزاً للتنمية الريفية المستدامة، أطلق برنامج “ريف السعودية” والمنفذ بين وزارة البيئة والمياه والزراعة ومنظمة (الفاو)، سلسلة برامج تدريبيةٍ متخصصةٍ في إنتاج العسل العضوي لأكثر من (114) مُربّي نحل، في مؤشرٍ واضحٍ على تنامي الاهتمام بالممارسات الزراعية المستدامة. هذه المبادراتُ تُعيد رسمَ ملامح الاقتصاد المحلي، وتفتحُ مساراتٍ جديدةً للرزق والتمكين الاقتصاديّ، خاصةً للشباب والنّساء وروّاد الأعمال، بدعم مشاريعَ قائمةٍ على الطبيعة تعزّز اقتصادات المناطق الساحلية.(12)
نهضة المملكة في استزراع المانغروف ليست إنجازاً محلياً؛ بل نموذجٌ عالميٌ يُحتذى به لاستعادة النظم البيئية الساحلية في المناطق الجافة. وبدعمِ القيادة الوطنية والاستناد للخبرات الفنية كمنظمة (الفاو)، تجسّد هذه المبادرةُ مُخرجات رؤية المملكة 2030، وتحقق أهداف التنمية المستدامة.(13)(14)
رسالة هذه الجهود، تحمل رؤيةً عميقةً لمستقبل أكثرَ استدامةً: “حين نُعيد إحياءَ الطبيعة، فإننا نُعيد بناءَ مستقبلنا”. وعبر هذه الثورة الخضراء، تُحوّل المملكةُ سواحلَها لنظمٍ بيئيةٍ حيويةٍ، لا تحمي البيئة فحسب، بل تمتد لتشمل تمكينَ المجتمعات، وتعزيزَ الأمل في عالم أكثر مرونةً وقدرةً للتكيّف مع التحديات البيئية.
نزار حداد، مدير برنامج منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) في المملكة العربية السعودية.