النحاس: تعطل منجم “غراسبرغ” يعزز توقعات الطلب القوي

أولي هانسن – رئيس استراتيجية السلع في ساكسو بنك
ارتفع النحاس بقوة يوم الأربعاء، مع اختراق العقود الآجلة في بورصة لندن لمستويات مقاومة رئيسية، حيث أعادت التطورات الأخيرة تسليط الضوء على مزيج من الطلب القوي المدعوم بتحولات هيكلية في قطاعي الطاقة والتكنولوجيا، في مقابل اضطرابات الإمدادات من بعض أكبر المناجم في العالم. هذا التوازن عزز أسعار النحاس ودفع أسهم شركات التعدين إلى موجة صعود حادة، ما يؤكد حساسية السوق تجاه أي صدمات في جانب العرض.
ضغوط على جانب العرض
جاءت شرارة الصعود الأخير من إندونيسيا، حيث أعلنت شركة فريبورت-ماكموران حالة القوة القاهرة على عقود التوريد من منجمها العملاق “غراسبرغ”، ثاني أكبر منجم نحاس في العالم والمساهم بنحو 3% من الإنتاج العالمي. المنجم تعرض هذا الشهر لانهيار أرضي مدمّر أسفر عن وفيات وتوقف الإنتاج. أسهم الشركة هوت 17% إثر خفض حاد في إنتاج النحاس والذهب على المدى القريب، مع توقعات بأن يستغرق التعافي الكامل سنوات. في المقابل، ارتفعت أسهم شركات تعدين أخرى بدافع توقعات ارتفاع الأسعار.
أضاف هذا التعطل أعباء جديدة على مشهد معقد أصلاً في أمريكا اللاتينية. ففي تشيلي، أكبر منتج للنحاس عالمياً، لا تزال كوديلكو تواجه صعوبات في استعادة الإنتاج بمنجم “إل تينيينتي” بعد حادث انهيار نفق قاتل في يوليو، مع تأجيلات متكررة لخطط التوسع. أما في بيرو، فقد أجبرت الاحتجاجات السياسية شركة هَدباي مينيرالز على تعليق الإنتاج مؤقتاً في منجم “كونستانسيا“.
تفاعل السوق بسرعة مع هذه التطورات؛ إذ قفزت العقود الآجلة في بورصة لندن بأكثر من 4% في يوم إعلان الخبر، متجاوزة مستوى مقاومة مهم عند 10,160 دولار للطن. هذا الارتفاع عكس حساسية السوق الشديدة لأي تهديد في الإمدادات. غير أن استمرار موجة الصعود مرهون بقدرة الأسعار على التماسك خلال الأيام المقبلة، ما يجعل أنظار المتعاملين مركّزة على السلوك السعري.
مرونة الطلب
يظل الطلب على النحاس، رغم هشاشة العرض، مدعوماً بقوة. حيث تتجاوز العوامل المحركة الدورة الصناعية التقليدية؛ إذ يواصل استهلاك الكهرباء عالمياً الارتفاع بوتيرة متسارعة بفعل التوسع في الكهربة، مراكز البيانات، والطاقة المتجددة. كما أن التحول إلى المركبات الكهربائية يضيف زخماً هيكلياً للطلب، كونها تستهلك أضعاف كمية النحاس المستخدمة في السيارات التقليدية.
إلى جانب ذلك، يشكّل التوسع في مراكز البيانات الضخمة والبنية التحتية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي مصدراً متنامياً للاستهلاك. هذه المنشآت تتطلب كميات هائلة من الطاقة، وبالتالي المزيد من الأسلاك وتعزيز شبكات الكهرباء، ما يحوّل النحاس تدريجياً من سلعة دورية إلى سلعة ذات أساسيات هيكلية راسخة.
تفوّق أسهم شركات التعدين
في ظل هذه المعطيات، جاء صعود أسهم شركات التعدين أكثر قوة من العقود الآجلة ذاتها. فقد ارتفع صندوق المؤشرات COPX، الذي يتتبع أداء كبار منتجي النحاس عالمياً، بنسبة 46.5% منذ بداية العام، مقارنة بنحو 18% فقط لعقود النحاس الآجلة في لندن، ونسبة أعلى قليلاً في نيويورك.
لا يعتبر هذا التباين غريباً؛ إذ غالباً ما تحقق أسهم التعدين عوائد مضاعفة عند ارتفاع الأسعار، بفعل اتساع الهوامش وإعادة تقييم الاحتياطيات والمشروعات المستقبلية، فضلاً عن الاستفادة من منتجات ثانوية مثل الذهب والموليبدينوم، وكذلك من فروقات أسعار الصرف المحلية.
وبالتالي، يعكس الأداء القوي لأسهم القطاع مكاسب مباشرة من ارتفاع الأسعار، إضافة إلى توقعات الأسواق باستمرار ضيق المعروض.
التوقعات المستقبلية
على المدى المنظور، تميل كفة المخاطر إلى جانب استمرار شح الإمدادات. فمن المتوقع ألا يبدأ التعافي التدريجي لمنجم “غراسبرغ” قبل عام 2027، بينما قد تمتد تحديات “كوديلكو” حتى العام المقبل، في وقت لا تزال فيه الأوضاع السياسية في بيرو غير مستقرة.
في المقابل، يواصل الطلب الهيكلي اكتساب قوة دفع من التحول الكهربائي، توسع مراكز الذكاء الاصطناعي، وانتشار الطاقة المتجددة.
هذا التلاقي بين ضعف العرض وقوة الطلب يُبقي أسعار النحاس مدعومة، مع احتمالية تسجيل طفرات سعرية إضافية عند أي اضطرابات جديدة في الإمدادات. أما أسهم شركات التعدين، التي تفوقت بالفعل على المعدن هذا العام، فقد تظل الوجهة المفضلة للمستثمرين كرهان معزز على قصة النحاس.