وليعفوا وليصفحوا

بقلم/ مشاري محمد بن دليلة
كاتب في الشؤون الاجتماعية والثقافية

إن الأصل في النزعة البشرية هو الشقاق والفرقة، ولذلك جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأخلاق الرسل والصالحين بمبدأ العفو والصفح عن الزلل، بل وأكدت عليها وجعلت جزاءه الأعظم عند الله أجراً عظيماً. ومن الآيات التي تشير إلى تلك الأخلاق والقيم قول الله تعالى “فمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ” (سورة الشورى: 40). هذه الآية تبرز أهمية العفو والإصلاح بين الناس، فقليل من الأعمال الصالحة التي جعل الله أجرها عنده كما في الصوم والعفو، ولكن الغالب في الأعمال الحسنة بعشر أمثالها. الله عز وجل عندما جعل أجر العفو والصفح عنده إنما يدل على عظم تلك الأخلاق والقيم، ويكيل لهم كيلاً من الأجور. عندما تتأمل في القصص النبوية، قصة يوسف عليه السلام حين رماه إخوته في البئر وكادوا له كيداً، ولما تمكن منهم قال: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم. قصة محمد صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة وكان قومه من ذي قبل أشداء عليه وآذوه، ووضعوا سنام الجزور على ظهره، واتهموه بالسحر، وعندما تمكن منهم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وقصته صلوات ربي وسلامه عليه عندما اتُهمت عائشة بحادثة الإفك، وكان من بينهم مسطح بن أثاثة، وكان ممن شهد غزوة أحد، وعندما نزل القرآن يبرئ عائشة نزل معه العفو والصفح كما في قول الله تعالى “وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۚ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (النور: 22). هذه الآية تدعو إلى العفو والصفح عن الآخرين، وتشير إلى فضل التسامح في العلاقات بين الناس، والقصص كثيرة عن الصالحين، ومنها قصة ابن تيمية رحمه الله عندما تمكن من الذين كادوا له وآذوه فعفا عنهم؛ بل وحضر عزاءهم بعد موتهم. إن القلوب النقية والكبيرة هي التي يكون ديدنها العفو والصفح عن كل من أخطأ عليها أو ظلمها، فالبشر يخطؤون فيستغفرون فيغفر الله لهم. الرجل يخطئ على زوجته والمرأة كذلك، وقد يصل الخطأ للأبناء أو للآباء أو بين الإخوة، وينتقل هذا الخطأ إلى الشقاق والفرقة لأجل إرضاء النفس، وهذا ما يريده الشيطان، فهو لا يفرح إلا بنفث الفرقة بين المتحابين، بل وقد يصل إلى أمور لا تحمد عقباها من قتل وغيره. لابد أن نهذب أنفسنا وأخلاقنا على العفو والصفح لمن أخطأ علينا، ولنتذكر أن الأجر من الله حتى العفو عن القاتل، فمن أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعًا. لا يوجد أحد على هذه الأرض لم يخطئ منذ خلق آدم، فقابيل قتل أخاه هابيل، وتسلسلت بعد ذلك الأخطاء البشرية، وتصغر وتكبر بحسب حجمها وعظمها. كم من إنسان تغافل وعفا عن من أخطأ عليه، وحمد العاقبة بعد ذلك، بل وجاء المخطئ ليعتذر منه بعد حين. يجب أن نتعلم كيف نرحل ونقف عند الخطأ، فهو يبدأ صغيرًا مثل الشرارة، ويكبر حتى يكون نارًا مستعرة لا يمكن إطفاؤها، فلنطهر أنفسنا ولنعفو عن من أساء علينا، فلن يبقَ أحد في هذه الدنيا، لن يبقى إلا ما قدمت في صحيفتك من خير وعمل صالح. نسأل الله أن يغفر لنا وأن يعفو عنا وعن جميع المسلمين الأحياء منهم والميتين. في النهاية، يتضح أن العفو والصفح ليسا مجرد قيم أخلاقية، بل هما سلوكيات أساسية لبناء مجتمع متماسك يسوده الحب والسلام. إن تجسيد هذه القيم في حياتنا اليومية يعكس إنسانيتنا، ويعزز علاقاتنا مع الآخرين، كما يسهم في تطهير القلوب من الضغينة والبعد عن الشقاق. فلنتذكر دائمًا أن العفو ليس علامة ضعف، بل هو قوة حقيقية، ولنبادر إلى مسامحة أخطائنا وأخطاء الآخرين، مُدركين أن كلاً منا يحمل في قلبه هفوات وأخطاء. لنحرص على أن نكون عبيدًا للرحمة والعفو، ونسعى جاهدين لنشر هذه القيم النبيلة بيننا. نسأل الله أن يوفقنا لذلك ويكتب لنا الأجر والثواب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى