بقلم /مشاري محمد بن دليلة
كاتب في الشؤون الاجتماعية والثقافية
من نعم الله عز وجل على الإنسان أن يرزقه جاراً أصيلاً فقيمة المنزل بمن يجاورك، وليس بفخامة مبانيه وجماله، والشريعة الإسلامية أكدت على أهمية الجار، وأوصت به، في الحديث (ما زال جبريلُ يوصيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنه سيورِّثُه)، بل أكدت على حفظ حقوقه وعرضه، فما أروع أن يسكن بجاورك أناس نبلاء بأخلاقهم لطفاء في تعاملهم رحماء مع الخلق تتميز قلوبهم بالطيبة والشهامة، تجدهم في نجدة الملهوف وإغاثة المحتاجين، يتقدمون الصفوف عند أي نازلة أو مناسبة فهم أصحاب همة عالية يهتمون بكبائر الأمور وعظائمها، ولا يلتفتون لسفاسف الأمور، أخلاقهم سامقة وقيمهم إسلامية تصبغ حياتهم فهي حاكمة في تصرفاتهم وأعمالهم. فيا فرحة من يجاوره مثل هؤلاء القمم الذين يملؤون حياتنا فرحاً وسروراً.
قبل عصر التقدم والمدنية كان الناس يعيشون حياة بسيطة ومحدودة في قرية صغيرة، تميزت حياتهم بالتكافل والترابط والتواصل الاجتماعي وقلوب نقية عامرة بالإيمان، ويسود بينهم التعاطف والتراحم، ولا يمكن أن ينام أحدهم وجاره جائع، فقد كانت الأواني تتسابق إليهم من كل فج عند أول صيحة مستغيث لسد رمق محتاج فحياتهم كانت حياة بسيطة مليئة بالحب والنخوة والعطاء، ولكن للأسف مع التقدم والمدنية ضاقت النفوس، وبعدت المسافات حتى أصبح الجار لا يعرف من هو جاره، وما هي حاجاته فقست القلوب، وأصبح البعض يجلس في بيته الساعات الطوال يمرض جاره، وتصيبه المحن، ولا يعرف عنه شيئاً، فما أحوجنا إلى أن نتخلق بأخلاق الأوائل في إكرام الجار والإحسان إليه.
ومن المشاهد الجميلة التي لا أنساها، جيران منزل والدنا رحمه الله، لو كتبت فيهم الدواوين والمعلقات في الثناء عليهم لما أوفيتهم حقهم من حيث أخلاقهم وأدبهم وسعة صدورهم وكرمهم فهم بحق يمتثلون الأخلاق الإسلامية، وينتهجون النهج النبوي، ويتقلدون الأعراف العربية في إكرام الجيران وحفظ حقوقهم، كانت بيننا وبينهم مواقف شتى في مختلف القضايا، ومن النماذج الجميلة عن أدب الجيران وأخلاقهم الحميدة، ما تحكيه الوالدة ـ حفظها الله ـ عن جيرانها القريبين، وعن معادنهم الطيبة التي توزن بميزان الذهب فهي دائما تحمد الله عز وجل في كل وقت وحين على تلك الصحبة الطيبة فهم بمكانة الأهل والأقارب لما لهم من جميل الخصال والمحبة، والتعاون على الخير، وتصف جارتها (أم سعد) وجارهم (أبو سعد) بأنهم السعد كله بأخلاقهم وحسهم الإنساني وأحاسيسهم الطيبة وطيب لسانهم، والدتي حفظها الله تعاملهم بنفس الشعور وداً بود وحباً بحب، فهم يعيشون كالأسرة الواحدة حتى إنَّهم يجتمعون في موائد الطعام مع بعضهم البعض وأحيانا يتبادلونه فيما بينهم حتى أصبح للأواني أقدام بين ذهاب وإياب، والمعروف عن والدتي أن جيرانها رقم مهم، ولا ترضى الحديث عنهم بسوء لما تجده منهم من وقفة في الأفراح والشدائد، وحينما مات والدي، وتبعه أخي ـ رحمهما الله جميعاً ـ بقليل ما وجدنا من جارنا أبو سعد وأم سعد إلا ما يرضي الله فقد كانت وقفتهم معنا في هذه المحنة كوقفة الأخ مع أخيه وقفة شهامة وحسن جوار، فقد كانت أم سعد تزور والدتي في محنتها هي وأهلها وأخواتها وقبيلتها، ووقفت معها بالقول والفعل مما كان لها أكبر الأثر في عزاء والدتنا وسلواناً لها فكما نعلم أن المفجوع يحب من يحتويه ويقف معه، ويؤازره عند المحن، ـوكما يقولون ـ تبرز المعادن الأصيلة التي تدل على صدق الأخوة والمحبة، وهذا ما رأيناه من جيراننا الذين حارت عقولنا عن رد معروفهم، ولم يكن منا إلا الدعاء لهم فأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، فأسأل الله بمنه وكرمه وجود أن يجود عليهم بالخير والتوفيق، وأن يحفظهم بحفظه، ويكلأهم برعايته ، وأن يبارك في أبنائهم وأن يجعل كل خير بذلوه في ميزان حسناتهم، وأن يبارك في ملكة منزلنا والدتي ذات القلب الكبير والمعاملة الطيبة .