وارتحل جيران مسجدنا
بقلم/ مشاري محمد بن دليلة
كاتب في الشؤون الاجتماعية والثقافية
عندما تعيش في حي سكني يحيط به الهدوء والتعاطف والتراحم والتعاون فإنه يكون مجتمعاً مدنياً تسوده تلك الأخلاقُ التي حث عليها ديننا الحنيفُ، وهذه القيم قد عشناها في حينا السكني فقد كان مجتمعنا كالجسد الواحد المترابط الأعضاء، بحيث لا يستغني أي عضو فيه عن الآخر، فقد كان حينا مثالياً ولا زال لأن كل من عاش فيه يعرف واجباته وحقوقه تجاه الآخر، ولهذا كان الاحترام المتبادل هو ديدنهم فالقلوب كانت منشرحة ومنفتحة على بعضها البعض؛ حيث لا ضجر ولا انزعاج بينهم، بل كان مجتمعاً متماسكاً يسعى دائماً نحوَ الخيرِ والتقدّمِ. فكلّ فردٍ فيهِ كانَ يُساهمُ بِما يملك من إمكاناتٍ لخدمةِ المجتمعِ وتطويرهِ.
وفي السنوات العشر الأخيرة افتقدنا أحبابًا لنا إما بذهابهم إلى ربهم غفر الله لهم أو انتقالهم إلى مسكن جديد، وهذا مما أحزننا وألمنا، فالناس الفضلاء فقدهم عزيز ومؤثر ويكون الفقد أشد حينما نفقد أحد العباد الفضلاء الذين إذا رأيتهم ذكرت الله وإذا ارتحل عن دنيا يكون حاضراً بيننا بسمته ووقاره وعلمه، خرج البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال قيل: يا رسول الله أي جلسائنا خير؟ قال: “من ذكركم بالله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكركم بالآخرة عمله.” فنسأل الله لهم الغفران فأمثال هؤلاء الصالحين كلما رأينا أبناءهم دعونا لفقيدهم، فقد كانوا قدوات نستقي منهم الأخلاق الجميلة والكلام الحسن واللطف في كل شيء ، فقد كانوا سباقين في الخير ، همتهم عالية في المشي لقضاء حوائج الناس، فهذه القيم الأصيلة في الغالب يرثها الأبناء عن الآباء فيسيروا على نهجهم فيكونوا مباركين مثل أبائهم ، لسانهم رحمهم الله دائماً رطباً بذكر الله لم نجد منهم فاحشاً في القول، ولاسعياً في القيل والقال، ولا الأذية والتحدث في أعراض الناس وغيبتهم؛ بل تجد منهم الابتسامة الدائمة والدعاء فهذا ما لمسناه منهم، روي عن أبي هريرة أَن رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ ) متفقٌ عَلَيهِ. و لو أحببنا أن نكتب عن الصالحين في حينا ما أوفيناهم حقهم فهم قامات سامية يصعب الاسترسال في ذكر محاسنهم فقد كانوا هم الإحسان بعينه، ومهما ذكرنا من ذلك لا نستطيع أن ننزلهم منازلهم السامية وما ذكرناه قطرات من بحر حسناتهم فغفر الله لمن من مات منهم وحفظ الأحياء على طاعة الله عز وجل.
ولا يخفى على أحد أن هذه الدنيا نعيمها زائل ولهذا لا يبقى من سيرة الإنسان إلا عمله وحسن تعامله مع الناس، ومما يعز علينا أن نفارق أبناء مباركين بعد وفاة والدهم الذين اكتسبوا صفاته إلى مسكنهم الجديد تاركين بذلك ذكراهم الجميلة، وقد مررنا بمثل هذه التجربة حينما رحل عن حينا إلى مسكنهم الجديد أبناء أحد جيراننا؛ حيث كانوا من أفضل الناس أدباً وأحاسنهم أخلاقاً فهم يألفون ويؤلفون، كنا إذا رأيناهم تذكرنا والدهم فخف مصابنا وألمنا على فقده ولكن كتب الله لهم الانتقال إلى مسكن جديد، فالقلب حزن على فراقهم ولكن نتمنى لهم إقامة طيبة في مسكنهم الجديد وهم بلا شك سيكونون مكسباً كبيراً لأهل الحي الجديد، ولكن كل ما نتمناه ألا ينقطع حبل الود بيننا، وهذه سنة الحياة الفراق والابتعاد ولا مفر منه، ولهذا يجب أن يكون حبل الود متصلاً ونقول لكل الأحباب ولكل من ترك أناساً قد أحبوهم تعاهدوا من كان لكم في قلبهم محبة فجمال الدنيا بتلك المشاعر الطيبة والتواصل الحسن، اجعلوا من الناس كلما رأوكم دعوا لفقيدكم بحضوركم، ومن البر وصل من كان أبوكم يصلهم ويحبهم ويأنس بهم ، أخيراً إن هذه الدنيا لا تصفو فأصلها الكبد والنصب فهي ليست دار مستقر بل ممر إلى دار الخلود نجتمع بمن نحب في الدار الأبدية بقلوب طاهرة نقية لا فيها صخب ولا نصب فيها من المحاسن ما لا تتصوره العقول، نسأل الله أن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين وأن يجمعنا في جنات النعيم.