رمزية المكان في رحلة عبد الله بن عيسى البطيان (عشرة أيام بين كازابلانكا والرباط)

المكان في الأعمال الإبداعية أس فني وجوهر من جواهر العمل الجيد الذي يمتع ويفيد، وأحد أركانه الذي يحدد جودته أو رداءته، فهو لا يقف فقط عند التحديد الجغرافي وإنما يتجاوزه إلى العلاقة النفسية والتاريخية التي يصوغها الكاتب بتعيين أماكن في عمله الإبداعي دون أخرى وجعلها محورا للسرد والحكي أو لأفكار تتناسل وتتوالج داخل العمل نفسه، ومهما قلنا فالمكان ليس شيئا أو معطى ثابتا وإنما هو نتاج تفاعل ذات المؤلف مع رقعة جغرافية، فكم من منزل يبدو لنا بسيطا بئيسا ولكنه عند البعض قصر سعادة وحب نظرا لما يحمله من ذكريات طفولة أو مغامرة مراهقة أو غيرهما، ولولا ذاك لما بكى الشاعر العربي على أطلاله أي بقايا حجارة وأعمدة ورسوم فقط.
انطلاقا من هذا فالأمكنة مشحونة بعلامات عاطفية وتاريخية يصعب فكها عنها، أو لك أن تقول إنه جملة من العلامات السميائية التي يجدر بالناقد أو الباحث فكها لإبراز رسالتها عند الكاتب الذي يوظفها بوعي أو بغير وعي، ولأن أدب الرحلات من الآداب التي توظف الأمكنة بمختلف ثنائياتها، مبتغية في ذلك الجمع بين المتعة والمعرفة وتقديمها للقارئ في صورة سردية مطولة أو مختصرة كما نجد عند الكاتب عبد الله البطيان في رحلته ” عشرة أيام بين كازابلانكا والرباط ” رحلته التي قضاها بين مكانين رئيسيين وهما مدينة الرباط العاصمة حيث المعرض الدولي للكتاب في دورته الثلاثين، ومدينة الدار البيضاء محل إقامته بفندق سنغفور، خلال عشرة أيام تجاذبه المكانان، مكان العمل ومكان الاستقرار لتتناسل منهما أمكنة عديدة برزت في عمله لا كفضاءات جامدة اعتيادية وإنما فضاءات مغربية بعيون سعودية أحسائية، ناقدة تتفاعل مع الجزئيات وتأبى إلا أن تسجل الأحداث والتفاصيل المنبثقة من هذه الأمكنة، فما هي يا ترى الأمكنة التي وظفها الكاتب في نصه الرحلي وما رمزيتها ودلالته؟
يمكننا بعد اطلاع على عمل ” عشرة أيام بين كازابلانكا والرباط ” والذي جاء ضمن مشروع شخصي للكاتب وثق فيه رحلاته إلى عدة مدن عالمية ونذكر هنا رحلاته الآتية: المكسيك، مرسيليا، باريس، الصين، وهي سرد لرحلاته العلمية أو الوظيفية أو غيرها، ويمكننا تصنيف أمكنة رحلته محل الدراسة إلى ثنائيات ليسهل تناولها وإبراز جماليتها ورمزيتها، وهي:
ثنائية الانطلاق والوصول
ثنائية العمل والراحة.
ثنائية المفتوح والمغلق.
إن هذه الثنائيات المكانية كفيلة بإعطاء القارئ صورة عن البعد الجمالي والقيمي لرحلة عبد الله البطيان “عشرة أيام بين كازابلانكا والرباط”
الثنائية الأولى: الانطلاق والوصول.
مكان الانطلاق:
تبدأ رحلة عبد الله البطيان من بلده الأصل المملكة العربية السعودية وخاصة مدينة الرياض التي كان يتواجد بها في إطار برنامج تدريبي بمعهد الإدارة العامة، هناك تلقى دعوة للحضور كوكيل أدبي بشمال أفريقيا، بتاريخ 15/10/1446 هذه الدعوة التي قبلها مهيئا لها أسباب النجاح رغم مداومته والتزاماته الكثيرة، ورغم كل ذلك وبعزيمته ومساعدة بعض أصدقائه الذين يثني عليهم في بداية رحلته، وجد طريقه للمطار وحجز تذكرته بعدما سوى أموره الأسرية متنقلا في ذلك إلى البطحاء جنوب الهفوف. إن حضور منطقة البطحاء والهفوف كأمكنة ثانوية في بداية الرحلة هو إشارة إلى جذور الكاتب الذي ما فتئ يثني على أصوله ويعتز بهويته وكان بإمكانه ذكر مدينة الرياض منفردة كمكان الانطلاق ورمزا حديثا لحضارة المملكة، إلا أن بلدته الأصل الهفوف والأحساء حاضرة كرمز للأصالة بما شكلته من أطباق ومسامرات وأهل وأصدقاء.
مكان الوصول:
في يوم الجمعة 18 أبريل 2025 وصل الكاتب عبد الله البطيان إلى مطار محمد الخامس، وهو مطار واقع على بعد واحد وثلاثين كيلومترا من مدينة الدار البيضاء وعلى بعد ستة ومائة كيلومترا من مدينة الرباط، شكل هذا المكان الذي اتخذ للعبور ملتقى للمحبة التي جمعته بصديقه الدكتور سعيد الشفناج، الذي استقبل عبد الله ورافقه إلى الدار البيضاء إلى أن استقر بفندق سنغابور بشارع رحال المسكيني بسيدي بليوط.
الدار البيضاء سواء في بداية الرحلة أو في وسطها تبرز كمدينة كبيرة جميلة لكنها تحمل العديد من المتناقضات كالرخاء والغلاء للخدمات التي يقدمها خاصة سائقي الأجرة وسماحة البعض في تعامله وسماجة البعض الآخر، ولكن مع ذلك تبقى مدينة أنس بها الكاتب وتمنى زيارتها خاصة بعدما عقد بها شراكات أدبية وثقافية مع العديد من الهيئات والجمعيات.
الثنائية الثانية: مكان العمل ومكان الراحة:
مكان العمل:
في اليوم الموالي أي يوم السبت بعد وصول عبد الله البطيان إلى مدينة الدار البيضاء وقضاء ليلته الأولى بالفندق انتقل إلى مدينة الرباط مع الساعة الثامنة صباحا، بواسطة قطار البراق، الرباط حيث يقام المعرض بمنطقة السويسي، وصل الكاتب مبكرا لعدم درايته بتوقيت افتتاح المعرض مع الساعة العاشرة، فحاول الدخول إلا أنه تراجع محترما الإجراءات ومستعينا بنعمة الصبر، إلى حين عقد اتصالاته وتحديد هويته والدخول بحقيبته كمشارك وكفاعل وليس كزائر، الرباط هنا بالنسبة للكاتب مكان ليس فقط لممارسة مهمته الرسمية، بل أيضا مكان لتبادل الخبرات وعقد الشراكات والتعريف بالمشاريع سواء داخل المعرض أو خارجه في إطار اللقاءات التي عقدها مع فعاليات ثقافية بتنسيق مع صديقه سعيد الشفناج، إنها مدينة العمل الجاد ما عدا بعض اللحظات التي تبرز فيها المدينة كملاذ للسياحة والاستمتاع بمزاراتها كمسجد حسان، وسوق الأحد، وقصبة الأوداية، وضفاف نهر أبي رقراق، وغيرها من الأمكنة.
مكان الراحة:
شكلت مدينة الدار البيضاء داخل المتن السردي فضاء لاستقرار الكاتب في فندق سنغفور الواقع في شارع رحال المسكيني حيث الضوضاء وأزيز السيارات، التي قاومها وتجاهلها الكاتب بتعبه الشديد فخلد للنوم المؤخر طوال ليالي إقامته. الدار البيضاء هنا تبرز أيضا كفضاء لممارسة رفاهية لحظية كشراء الهاتف المحمول وحلاقة الوجه واستقبال الكاتب من طرف صديقه سعيد داخل أسرته وعقد شراكات وتناول وجبات مغربية وتركية، إنها مدينة يغادرها كل صباح ليعود إليها كل مساء حتى إنه تعرف وعقل بعض طرقاتها فغدا مستغنيا عن خدمات سائقي الأجرة.
الثنائية الثالثة: الفضاء المغلق والفضاء المفتوح.
الفضاء المغلق:
وقد شكلته على التوالي:
مقصورة الطائرة: المكان الذي عانى فيه الكاتب من بعض الضوضاء والأحاديث المتصلة التي أزعجته في بداية الرحلة بعدما كان ينشد الراحة بعد تعب الاستعداد للسفر وما رافقه من تدبير لأمور أسرته وعمله.
الفندق: الذي يبرز مكانا للاستقرار والراحة رغم موقعه على الشارع وصرامة بعض خدمه.
المعرض: لب زيارته وهنا يبرز كفضاء لعرض الإصدارات وعقد اللقاءات والشراكات والندوات، كما أنه فرصة لزيارة أروقة بعض الدول المشاركة وتجاذب الأفكار، كرواق إمارة الشارقة، وأروقة الإمارات عامة ضيف الشرف.
منزل الدكتور سعيد الشفناج: يمثل الصداقة الثقافية الحقة الممتدة في الزمان والمكان والتي تجاوزت الثقافة والمعرفة إلى الأخوة والقرابة.
الفضاء المفتوح: وتمثله: قصبة الأوداية برمزيتها التاريخية والسياحية، ومسجد حسان بفضائه الشاسع القريب من نهر أبي رقراق ورمزيته الحضارية والدينية والتي أعجب بها الكاتب، كما تتجلى عدة فضاءات مفتوحة أخرى، كسوق الأحد وبعض المطاعم والمقاهي التي عقد فيها الكاتب شراكاته الأدبية واستمتع فيها بالأطباق المغربية، والتي تبرز في المتن الرحلي كمجال خصب للتبادل الثقافي والتعاون المغربي السعودي.
إن رحلة عبد الله البطيان “عشرة أيام بين كازابلانكا والرباط” رحلة ثقافية عملية تجاوز فيها الكاتب التناول السطحي للفضاءات ليجعل منها ذكرى محملة بالكثير من الدلالات التي قد تعين القارئ على اكتشاف نظرة الزائر المثقف للمغرب كما أنها بوابة لتقييم الخدمات السياحية المقدمة للأجنبي عموما والتي من شأنها تجويد السياحة بالمغرب.
بقلم ــ منير المنيري
كاتب من المغرب